فصل: تفسير الآيات (34- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فكيف يقال: لا يعبد الله طلبا لجنته ولا خوفا من ناره وكذلك النار أعاذنا الله منها فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته وغضبه وسخطه والبعد عنه: أعظم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم بل التهاب هذه النار في قلوبهم: هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم ومنها سرت إليها فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين: هو الجنة ومهربهم: من النار.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل ومقصد القوم: أن العبد يعبد ربه بحق العبودية والعبد إذا طلب من سيده أجرة على خدمته له كان أحمق ساقطا من عين سيده إن لم يستوجب عقوبته إذ عبوديته تقتضي خدمته له وإنما يخدم بالأجرة من لا عبودية للمخدوم عليه إما أن يكون حرا في نفسه أو عبدا لغيره وأما من الخلق عبيده حقا وملكه على الحقيقة ليس فيهم حر ولا عبد لغيره: فخدمتهم له بحق العبودية فاقتضاؤهم للأجرة خروج عن محض العبودية.
وهذا لا ينكر على الإطلاق ولا يقبل على الإطلاق وهو موضع تفصيل وتمييز وقد تقدم في أول الكتاب: ذكر طرق الخلق في هذا الموضع وبينا طريق أهل الاستقامة فالناس في هذا المقام أربعة أقسام أحدهم: من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه فهؤلاء أعداؤه حقا وهم أهل العذاب الدائم وعدم أرادتهم لثوابه: إما لعدم تصديقهم به وإما لإيثار العاجل عليه ولو كان فيه سخطه.
والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه وهؤلاء خواص خلقه قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخرةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] فهذا خطابه لخير نساء العالمين أزواج نبيه وقال الله تعالى: {وَمَنْ أراد الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] فأخبر أن السعي المشكور: سعي من أراد الآخرة وأصرح منها: قوله لخواص أوليائه وهم أصحاب نبيه ورضى عنهم في يوم أحد {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخرةَ} فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما وقد غلط من قال: فأين من يريد الله فإن أرادة الآخرة عبارة عن أرادة الله تعالى وثوابه فأرادة الثواب لا تنافي أرادة الله والقسم الثالث: من يريد من الله ولا يريد الله فهذا ناقص غاية النقص وهو حال الجاهل بربه الذي سمع: أن ثم جنة ونارا فليس في قلبه غير أرادة نعيم الجنة المخلوق لا يخطر بباله سواه ألبتة بل هذا حال أكثر المتكلمين المنكرين رؤية الله تعالى والتلذذ بالنظر إلى وجهه في الآخرة وسماع كلامه وحبه والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله وهم عبيد الأجرة المحضة فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس.
ومنهم من يصرح بأن أرادة الله محال قالوا: لأن الأرادة إنما تتعلق بالحادث فالقديم لا يراد فهؤلاء منكرون لأرادة الله غاية الإنكار وأعلى الأرادة عندهم: أرادة الأكل والشرب والنكاح واللباس في الجنة وتوابع ذلك فهؤلاء في شق وأولئك الذين قالوا: لم نعبده طلبا لجنته ولا هربا من ناره في شق وهما طرفا نقيض بينهما أعظم من بعد المشرقين وهؤلاء من أكثف الناس حجابا وأغلظهم طباعا وأقساهم قلوبا وأبعدهم عن روح المحبة والتأله ونعيم الأرواح والقلوب وهم يكفرون أصحاب المحبة والشوق إلى الله والتلذذ بحبه والتصديق بلذة النظر إلى وجهه وسماع كلامه منه بلا واسطة.
وأولئك لا يعدونهم من البشر إلا بالصورة ومرتبتهم عندهم قريبة من مرتبة الجماد والحيوان البهيم وهم عندهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها ومعرفة معبودهم وسر عبوديته وحال الطائفتين عجب لمن اطلع عليه.
والقسم الرابع وهو محال: أن يريد الله ولا يريد منه فهذا هو الذي يزعم هؤلاء: أنه مطلوبهم وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام وهو أن يكون الله مراده ولا يريد منه شيئا كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال: قبل لي: ما تريد فقلت: أريد أن لا أريد.
وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع: عقلا وفطرة وحسا وشرعا فإن الأرادة من لوازم الحي وإنما يعرض له التجرد عنها بالغيبة عن عقله وحسه كالسكر والإغماء والنوم فنحن لا ننكر التجريد عن أرادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم أرادتها أرادته أفليس صاحب هذا المقام مريدا لقربه ورضاه ودوام مراقبته والحضور معه وأي أرادة فوق هذه نعم قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلا فلم يخرج عن الأرادة وإنما انتقل من أرادة إلى أرادة ومن مراد إلى مراد وأما خلوه عن صفة الأرادة بالكلية مع حضور عقله وحسه: فمحال.
وإن حاكمنا في ذلك محاكم إلى ذوق مصطلم مأخوذ عن نفسه فإن عن عوالمها: لم ننكر ذلك لَكِن هذه حال عارضة غير دائمة ولا هي غاية مطلوبة للسالكين ولا مقدورة للبشر ولا مأمور بها ولا هي أعلا المقامات فيؤمر باكتساب أسبابها فهذا فصل الخطاب في هذا الموضع والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل:
قوله: ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة هذا فيه تفصيل أيضا وهو أن المشاهدة في العمل لغير الله نوعان مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضا من الآفات والحجب ومشاهدة لا تبعث عليه ولا تعين الباعث بل لا فرق عنده بين وجودها وعدمها فهذه لا تدخله في التزين بالمراءاة ولاسيما عند المصلحة الراجحة في هذه المشاهدة: إما حفظا ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك فتكون محسنا إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص أو قصدا منك للاقتداء وتعريف الجاهل فهذا رياء محمود والله عند نية القلب وقصده فالرياء المذموم: أن يكون الباعث: قصد التعظيم والمدح والرغبة فيما عند من ترائيه أو الرهبة منه وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحو ذلك: فليس في هذه المشاهد رياء بل قد يتصدق العبد رياء مثلا وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر مثال ذلك: رجل مضرور سأل قوما ما هو محتاج إليه فعلم رجل منهم: أنه إن أعطاه سرا حيث لا يراه أحد: لم يقتد به أحد ولم يحصل له سوى تلك العطية وأنه إن أعطاه جهرا: اقتدي به واتبع وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر: أرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين فهذه مراءاة محمودة حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أوجور أولئك المعطين.
قوله: فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس يعني أن الخائف يشتغل بحفظ نفسه من العذاب ففيه عبادة لنفسه إذ هو متوجه إليها وطالب المثوبة متوجه إلى طلب حظ نفسه وذلك شعبة من عبوديتها والمشاهد للناس في عبادته: فيه شعبة من عبودية نفسه إذ هو طالب لتعظيمهم وثنائهم ومدحهم فهذه شعب من شعب عبودية النفس والأصل الذي هذه الشعب فروعه: هي النفس فإذا ماتت بالمجاهدة والإقبال على الله والاشتغال به ودوام المراقبة له: ماتت هذه الشعب فلا جرم أن بناء أمر هذه الطائفة على ترك عبادة النفس وقد علمت أن الخوف وطلب الثواب: ليس من عبادة النفس في شيء نعم التزين بالمراءاة عين عبادة النفس والكلام في أمر أرفع من هذا فإن حال المرائي أخس ونفسه أسقط وهمته أدنى من أن يدخل في شأن الصادقين ويذكر مع الصالحين والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل:
قال صاحب المنازل: الدرجة الثانية: إجراء الخبر على ظاهره وهو أن تبقى أعلام توحيد العامة الخبرية على ظواهرها ولا يتحمل البحث عنها تعسفا ولا يتكلف لها تأويلا ولا يتجاوز ظواهرها تمثيلا ولا يدعي عليها إدراكا أو توهما يشير الشيخ رحمه الله وقدس روحه بذلك إلى أن حفظ حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أذهان العامة ولا يعني بالعامة الجهال بل عامة الأمة كما قال مالك رحمه الله وقد سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى فأطرق مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ففرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة وبين الكيف الذي لا يعقله البشر وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شاف عام في جميع مسائل الصفات.
فمن سأل عن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] كيف يسمع ويرى أجيب بهذا الجواب بعينه فقيل له: السمع والبصر معلوم والكيف غير معقول وكذلك من سأل عن العلم والحياة والقدرة والأرادة والنزول والغضب والرضى والرحمة والضحك وغير ذلك فمعانيها كلها مفهومة وأما كيفيتها: فغير معقولة إذ تعقل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها فإذا كان ذلك غير معقول للبشر فكيف يعقل لهم كيفية الصفات والعصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل تثبت له الأسماء والصفات وتنفى عنه مشابهة المخلوقات فيكون إثباتك منزها عن التشبيه ونفيك منزها عن التعطيل فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل ومن شبهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثل ومن قال: استواء ليس كمثله شيء فهو الموحد المنزه وهكذا الكلام في السمع والبصر والحياة والأرادة والقدرة واليد والوجه والرضى والغضب والنزول والضحك وسائر ما وصف الله به نفسه والمنحرفون في هذا الباب قد أشار الشيخ إليهم بقوله: لا يتحمل البحث عنها تعسفا أي لا يتكلف التعسف عن البحث عن كيفياتها والتعسف سلوك غير الطريق يقال: ركب فلان التعاسيف في سيره إذا كان يسير يمينا وشمالا جائرا عن الطريق ولا يتكلف لها تأويلا أراد بالتأويل ههنا: التأويل الاصطلاحي وهو صرف اللفظ عن ظاهره عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح.
وقد حكى غير واحد من العلماء: إجماع السلف على تركه وممن حكاه البغوى وأبو المعالي الجويني في رسالته النظامية بخلاف ما سلكه في شامله وإرشاده وممن حكاه: سعد بن علي الزنجاني وقبل هؤلاء خلائق من العلماء لا يحصيهم إلا الله ولا يتجاوز ظاهرها تمثيلا أي لا يمثلها بصفات المخلوقين وفي قوله: لا يتجاوز ظاهرها إشارة لطيفة وهي أن ظواهرها لا تقتضي التمثيل كما تظنه المعطلة النفاة وأن التمثيل تجاوز لظواهرها إلى ما لا تقتضيه كما أن تأويلها تكلف وحمل لها على ما لا تقتضيه فهي لا تقتضي ظواهرها تمثيلا ولا تحتمل تأويلا بل إجراء على ظواهرها بلا تأويل ولا تمثيل فهذه طريقة السالكين بها سواء السبيل.
وأما قوله: ولا يدعى عليها إدراكا أي لا يدعى عليها استدراكا ولا فهما ولا معنى غير فهم العامة كما يدعيه أرباب الكلام الباطل المذموم بإجماع السلف.
وقوله: ولا توهما أي لا يعدل عن ظواهرها إلى التوهم والتوهم نوعان: توهم كيفية لا تدل عليه ظواهرها أو توهم معنى غير ما تقتضيه ظواهرها وكلاهما توهم باطل وهما توهم تشبيه وتمثيل أو تحريف وتعطيل وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنة ومقداره في العلم وأنه بريء مما رماه به أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب والمعتزلة بأنهم نوابت حشوية وذلك ميراث من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه ورمي أصحابه رضي الله عنهم بأنهم صبأة قد ابتدعوا دينا محدثا وميراث لأهل الحديث والسنة من نبيهم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة وقدس الله روح الشافعي حيث يقول وقد نسب إلى الرفض:
إن كان رفضا حب آل محمد ** فليشهد الثقلان أني رافضي

ورضي الله عن شيخنا أبي العباس بن تيمية حيث يقول:
إن كان نصبا حب صحب محمد ** فليشهد الثقلان أني ناصبي

وعفا الله عن الثالث حيث يقول:
فإن كان تجسيما ثبوت صفاته ** وتنزيهها عن كل تأويل مفترى

فإني بحمد الله ربي مجسم ** هلموا شهودا واملأوا كل محضر

فصل:
قال: الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط: أن تشوبه جرأة. وصيانة السرور: أن يداخله أمن وصيانة الشهود: أن يعارضه سبب لما كانت هذه الدرجة عنده مختصة بأهل المشاهدة والغالب عليهم الانبساط والسرور فإن صاحبها متعلق بـ اسمه الباسط حذره من شائبة الجرأة وهي ما يخرجه عن أدب العبودية ويدخله في الشطح كشطح من قال سبحاني ونحو ذلك من الشطحات المعروفة المخرجة عن أدب العبودية التي نهاية صاحبها: أن يعذر بزوال عقله وغلبة سكر الحال عليه فلابد من مقارنة التعظيم والإجلال لبسط المشاهدة وإلا وقع في الجرأة ولابد فالمراقبة تصونه عن ذلك قوله: وصيانة السرور: أن يداخله أمن يعني أن صاحب الانبساط والمشاهدة يداخله سرور لا يشبهه سرور ألبتة فينبغي له أن لا يأمن في هذا الحال المكر بل يصون سروره وفرحه عن خطفات المكر بخوف العاقبة المطوي عنه علم غيبها ولا يغتر وأما صيانة الشهود: أن يعارضه سبب فيريد أن صاحب الشهود: قد يكون ضعيفا في شهود حقيقة التوحيد فيتوهم أنه قد حصل له ما حصل بسبب الاجتهاد التام والعبادة الخالصة فينسب حصول ما حصل له من الشهود إلى سبب منه وذلك نقص في توحيده ومعرفته لأن الشهود لا يكون إلا موهبة ليس هو كسبيا ولو كان كسبيا فشهود سببه نقص في التوحيد وغيبة عن شهود الحقيقة ويحتمل أن يريد بالسبب المعارض للشهود: ورود خاطر على الشاهد يكدر عليه صفو شهوده فيصونه عن ورود سبب يعارضه: إما معارض أرادة أو معارض شبهة وقد يعم كلامه الأمرين والله سبحانه أعلم. اهـ.

.تفسير الآيات (34- 35):

قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: جعل لكم سبحانه هذه الأشياء مناسك، عطف عليه قوله: {ولكل أمة} أي من الأمم السالفة وغيرها {جعلنا} بعظمتنا التي لا يصح أن تخالف {منسكًا} أي عبادة أو موضع عبادة أو قربانًا، فإنه يكون مصدر نسك- كنصر وكرم- نسكًا ومنسكًا، ويكون بمعنى الموضع الذي يعبد فيه، والذي يذبح فيه النسك وهو الهدي، وقال ابن كثير: ولم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل.
ثم أتبع هذا الجعل عتله بيانًا لأنه ليس مقصودًا في نفسه فقال: {ليذكروا} ولما كان الدين سهلًا سمحًا ذا يسر، رضي بالدخول فيه بالظاهر فقال: {اسم الله} أي الملك الأعلى وحده، على ذبائحهم وقرابينهم وعبادتهم كلها، لأنه الرزاق لهم وحده؛ ثم علل الذكر بالنعمة تنبيهًا على التفكر فيها فقال: {على ما رزقهم} فوجب شكره به عليهم {من بهيمة الأنعام}.
ولما علم أن الشارع لجميع الشرائع الحقة واحد، وأن علة نصبه لها ذكره وحده، تسبب عنه قوله: {فإلهكم} أي الذي شرع هذه المناسك كلها.
ولما كان الإله ما يحق له الإلهية بما تقرر من أوصافه، لا ما سمي إلهًا، قال: {إله} ووصفه بقوله: {واحد} أي وإن اختلفت فروع شرائعه ونسخ بعضها بعضًا، ولو اقتصر على {واحد} لربما قال متعنتهم: إن المراد اقتصارنا على واحد مما نعبده.
والتفت إلى الخطاب لأنه أصرح وأجدر بالقبول.
ولما ثبت كونه واحدًا، وجب اختصاصه بالعبادة، فلذا قال: {فله} أي وحده {أسلموا} أي انقادوا بجميع ظواهركم وبواطنكم في كل ما أمر به أو نهى عنه ناسخًا كان أو لا وإن لم تفهموا معناه كغالب مناسك الحج.
ولما أمر بالإسلام من يحتاج إلى ذلك إيجادًا أو تكميلًا أو إدامة، وكان الإسلام هو سهولة الانقياد من غير كبر ولا شماخة، وكان منشأ الطمأنينة والتواضع اللذين هما أنسب شيء لحال الحجاج المتجرد من المخيط المكشوف الرأس الطالب لوضع أوزاره، وتخفيف آصاره لستر عوراه، أقبل سبحانه وتعالى على الرأس من المأمورين، الحائز لما يمكن المخلوقين أن يصلوا إليه من رتب الكمال، وخلال الجمال والجلال، إشارة إلى أنه لا يلحقه أحد في ذلك فقال: {وبشر المخبتين} أي المتواضعين، المنكسرين، من الخبت- للأرض المنخفضة الصالحة للاستطراق وغيره من المنافع؛ ثم بين علاماتهم فقال: {الذين إذا ذكر الله} أي الذي له الجلال والجمال {وجلت} أي خافت خوفًا مزعجًا {قلوبهم}.
ولما كان في ذكر الحج، وكان ذلك مظنة لكثرة الخلطة الموجبة لكثرة الأنكاد ولاسيما وقد كان أكثر المخالطين مشركين، لأن السورة مكية، قال عاطفًا غير مُتبع، إيذانًا بالرسوخ في الأوصاف: {والصابرين} الذين صار الصبر عادتهم {على ما أصابهم} كائنًا ما كان.
ولما كان ذلك شاغلًا عن الصلاة، قال: {والمقيمي الصلاة} أي وإن حصل لهم من المشاق بأفعال الحج وغيره ما عسى أن يحصل، ولذلك عبر بالوصف دون الفعل إشارة إلى أنه لا يقيمها على الوجه المشروع مع ذلك المشاق والشواغل إلا الأراسخ في حبها، فهم- لما تمكن من حبها في قلوبهم والخوف من الغفلة عنها- كأنهم دائمًا في صلاة.
ولما كان ما يحصل فيه من زيادة النفقة ربما كان مقعدًا عنه، رغب فيه بقوله: {ومما رزقناهم} فهم لكونه نعمة منا لا يبخلون به، ولأجل عظمتنا يحسنون ظن الخلف {ينفقون} أي يجددون بذله على الاستمرار، بالهدايا التي يغالون في أثمانها وغير ذلك، إحسانًا إلى خلق الله، امتثالًا لأمره كالخبت الباذل لما يودعه تعالى فيه من الماء والمرعى. اهـ.